فصل: (سورة الأنبياء: الآيات 48- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.البلاغة:

1- وضع الظاهر موضع المضمر: في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدعاء إِذا ما يُنْذَرُونَ} فن لطيف يمكن تسميته وضع الظاهر موضع المضمر والفائدة منه التسجيل عليهم فقد كان مقتضى السياق أن يقول ولا يسمعون ولَكِنه صرح بالصم وتجاوز بالظاهر عن ضميره للدلالة على تصامهم وسدهم أسماعهم إن أنذروا، وللدلالة على صدور إنكار شديد وغضب عظيم وتعجب من نبو أسماعهم عن الوحي وعدم إصاختهم لما ينفعهم وإمعانهم في ركوب الغي والتعسف في متاهات الضلال وهذا فن عجيب تميز به القرآن الكريم وسيرد عليك الكثير من نماذجه.
2- إسناد الضمير إلى اللّه تعالى في قوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنْقُصُها مِنْ أطرافها} أسند سبحانه الضمير إلى نفسه تعظيما للمسلمين الذين أجرى على أيديهم الانتصار العظيم وافتتاح البلاد والأمصار وان عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها فأصله تأتي جيوش المسلمين ولَكِنه أسند الإتيان إلى نفسه تنويها بقدر المجاهدين وتعظيما لما أتوا به من جلائل الأعمال وناهيك بمن يعمل عملا ينسبه اللّه إلى نفسه ألا يصح فيه أن يكون مصداقا لقوله في حديثه: «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها» إلى آخر الحديث القدسي.
3- مبالغات ثلاث:
وفي قوله تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا} ثلاث مبالغات:
أ- ذكر المس وهو أقل شيء بل هو شيء رفيق جدا فما بالك إذا انثال عليهم؟ أي يكفي للدلالة على ذلهم وهوان أمرهم ووهن عزيمتهم أن أقل مس يكفيهم ليذعنوا ويتطامنوا ويعلنوا ذلهم وخضوعهم والإقرار على أنفسهم بأنهم تصاموا وأعرضوا وقد رمق المتنبي سماء هذه المبالغة فقال في وصف قوم جبناء:
وضاقت الأرض حتى كاد هاربهم ** إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

ب- وما في النفحة من معنى القلة والنزارة يقال: نفحته الدابة ونفحه بعطية.
ج- بناء المرة من النفح فمصدر المرة يأتي على فعلة أي نفحة واحدة لا ثاني لها تكفي لتشتيت أمرهم وتوهين كيانهم وتصدع صفوفهم فكيف إذا عززت بثانية أو ثالثة؟.

.الفوائد:

مصدرا المرة والهيئة:
مصدر المرة هو ما يذكر لبيان عدد الفعل ويبنى من الثلاثي المجرّد على وزن فعلة بفتح الفاء وسكون العين مثل: وقفت وقفة ووقفتين ووقفات فإن كان الفعل فوق الثلاثي ألحقت بمصدره التاء مثل أكرمته إكرامة وفرّحته تفريحة وتدحرج تدحرجة إلا ان كان المصدر ملحقا في الأصل بالتاء فيذكر بعده ما يدلّ على العدد مثل رحمته رحمة واحدة وأقمت إقامة واحدة واستقمت استقامة واحدة.
أما مصدر النوع أو الهيئة فهو ما يذكر لبيان نوع الفعل وصفته نحو وقفت وقفة ويبنى من الثلاثي المجرد على وزن فعلة بكسر الفاء مثل عاش عيشة حسنة ومات ميتة سيئة وفلان حسن الجلسة وفلانة هادئة المشية فإن كان الفعل فوق الثلاثي يصير مصدره بالوصف مصدر نوع مثل أكرمته إكراما عظيما.
هذا وهنا تنبيه هام نبه عليه الشيخ أبو حيان وهو أن هذه التاء الدالة على المرة الواحدة لا تدخل على كل مصدر بل على المصادر الصادرة عن الجوارح المدركة بالحس نحو قومة وضربة وقعدة وأكلة، وأما مصادر الأفعال الباطنة والخصال الجليلة الثابتة نحو الظرف والحسن والجبن والعلم فلا يقال من ذلك علمته علمة ولا فهمته فهمة ولا صبرته صبرة.

.[سورة الأنبياء: الآيات 48- 55]:

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنا إبراهيم رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)}.

.اللغة:

التَّماثِيلُ: جمع تمثال بكسر التاء أي الصورة المصورة أو ما تصنعه وتصوره مشبها بخلق اللّه من ذوات الروح والصورة وهذا الوزن فيه زائدان أحدهما قبل الفاء والآخر قبل اللام وقد جاء اسما وصفة. فالاسم تمثال للصورة ويجمع على تماثيل وقالوا تجفاف وتبيان فالتجفاف واحد تجافيف الفرس وهو ما يلبس عند الحرب والزينة وتبيان بمعنى البيان فمنهم من يجعله مصدرا من قبيل الشاذ لأن المصادر إنما تجيء على تفعال بالفتح نحو التلعاب والتهدار ولم يجيء بالكسر إلا تبيان وتلقاء، وسيبويه يجعلهما من الأسماء التي وضعت موضع المصادر كالغارة وضعت موضع الإغارة. وقال غير واحد من علماء اللغة: التمثال هو الصورة المصنوعة من رخام أو نحاس أو خشب شبيهة بخلق الآدمي.

.الإعراب:

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما يكابده من قومه وتقوية لقلبه وحفزا لاستدامته في تأدية الرسالة وذكر منها في هذه السورة عشر قصص وستأتي. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق و{آتينا} فعل وفاعل و{موسى} مفعول به و{هارون} معطوف على {موسى} و{الفرقان} مفعول به ثان و{ضياء} عطف على {الفرقان} و{ذكرا} عطف على {ضياء} و{للمتقين} متعلقان بضياء وعطف الصفات جائز فهو من هذا الوادي واختار الزمخشري أن يعرب حالا وعامله محذوف دل عليه ما قبله وقدره: وآتينا به ضياء، أما ما ارتآه بعضهم من أن الواو زائدة وضياء حال من الفرقان فهذا مجرد تحكم لا نتردد في رده.
{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} الذين اسم موصول في محل جر صفة للمتقين ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف أي هم الذين وجملة {يخشون} صلة والواو فاعل و{ربهم} مفعول به و{بالغيب} حال من الفاعل في {يخشون} {وهم} الواو عاطفة أو حالية و{هم} مبتدأ و{من الساعة} جار ومجرور متعلقان بمشفقون و{مشفقون} خبرهم وسيأتي سر التعبير بالاسمية في باب البلاغة. {وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} الواو استئنافية والجملة مستأنفة لخطاب أهل مكة ومحاورتهم حول القرآن الكريم الذي أنزل بلسانهم، {وهذا} مبتدأ و{ذكر} خبر و{مبارك} صفة وجملة {أنزلناه} صفة لذكر وهو فعل وفاعل ومفعول به والهمزة للاستفهام التوبيخي لأنه خطاب للعرب وهم أهل اللسان العربي ومعادن الفصاحة فما أجدرهم باكتناه أسرار القرآن وإدراك بلاغته والفاء عاطفة على محذوف {وأنتم} مبتدأ و{له} متعلقان بمنكرون و{منكرون} خبر أنتم.
{وَلَقَدْ آتَيْنا إبراهيم رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ} الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق و{آتينا} فعل وفاعل و{إبراهيم} مفعول به أول و{رشده} مفعول به ثان و{من قبل} حال أي من قبل موسى وهارون {وكنا} الواو عاطفة وكان واسمها و{به} متعلقان بعالمين و{عالمين} خبر {كنا} {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ} الظرف متعلق بـ فعل محذوف أي اذكر ولك أن تعلقه بعالمين وعلقه الزمخشري بآتينا أو برشده أيضا وليس ثمة ما يمنع من ذلك وجملة {قال} مضاف إليها الظرف و{لأبيه} متعلقان بقال و{قومه} عطف على {لأبيه} و{ما} اسم استفهام مبتدأ و{هذه} خبر و{التماثيل} بدل من اسم الإشارة و{التي} صفة وجملة {أنتم لها عاكفون} صلة الموصول و{أنتم} مبتدأ و{عاكفون} خبر و{لها} متعلقان بعاكفون وسيأتي السر في عدوله عن القول عليها عاكفون إلى {لها عاكفون} في باب البلاغة. {قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ} {قالوا} فعل وفاعل و{وجدنا} فعل وفاعل والجملة مقول القول و{آباءنا} مفعول {وجدنا} الأول و{لها} متعلقان بعابدين و{عابدين} مفعول {وجدنا} الثاني. {قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق و{كنتم} كان واسمها و{أنتم} تأكيد للتاء و{آباؤكم} عطف على التاء و{في ضلال} خبر {كنتم} و{مبين} صفة لضلال. {قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} الهمزة للاستفهام وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به وبالحق متعلقان بجئتنا و{أم} حرف عطف معادل للهمزة و{أنت} مبتدأ و{من اللاعبين} خبره.

.البلاغة:

1- العدول عن الفعلية إلى الاسمية: في قوله تعالى: {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} عدول عن الخطاب بالجملة الفعلية كما هو مقتضى السياق إلى الخطاب بالجملة الاسمية وانما يعدل عن أحد الخطابين وإن كان السياق يقتضيه لضرب من التأكيد والمبالغة وقد جيء بها هنا تنويها بالخاص بعد العام فالخشية من اللّه ملازمة لهم ولَكِنها من الساعة أكثر ملازمة وأشد امتلاكا لقلوبهم وأسرا لجوارحهم، ما يريمون عن تذكرها، وتفادي كل ذنب خشية مواجهتها بما هم فيه، وأمر ثان هو الديمومة والاستمرار اللذان تفيدهما الجملة الاسمية أكثر مما تفيدهما الجملة الفعلية التي تتوزع على الأزمنة.
2- في قوله تعالى: {ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ} عدول عن على التي يتعدى فعل العكوف بها ولَكِنه أم يقصد التعدية ولو قصد التعدية لقال عليها ولَكِنه عدل عنها إلى اللام لأنه قصد من العكوف معنى العبادة ليجيبوه بقولهم {وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ} وانهم لا ينفكون عن التقليد الأعمى وفي ذلك ما فيه من التنديد بالتقليد والقول بغير برهان والانجرار إلى ما عليه آباؤهم ولو بالأرسان، وكفى أهل التقليد سبة أن عبدة الأوثان والأصنام منهم وقيل إن اللام بمعنى على وقد نص النحاة على مجيئها بمعنى على ولَكِن تفوت بذلك النكتة التي ألمعنا إليها فالأولى بقاؤها على بابها من الاختصاص الذي هو معنى رئيسي للام.
3- خولف بين الجملتين في الآية {قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} لملاحظة تجدد في إحداهما فبرزت في صورة الفعلية وثبات في الأخرى فبرزت في صورة الاسمية والمعنى: أحدثت عندنا الإتيان بالحق وهو التوحيد فيما نسمعه منك أم أنت على ما كنت عليه من اللعب منذ أيام الصبا وأرادوا بالتجدد في الجملة الأولى أن التوحيد أمر محدث مخترع وبالثبات في الثانية أنه على عادتهم المستمرة من اللعب تحقيرا له، وما أقبح ضلالهم في تقليد آبائهم في عبادة جماد هو دونهم في الرتبة حيث ينحتونها بأيديهم ثم يعفرون وجوههم وجباههم دونها.